تنقصنا المحبّة
من وحي معركة الدواء
من أسباب فشل المرسوم 1943، المتعلّق بفرض ما سمّي بالبضائع الكماليّة، المرسوم 361 الذي خفّض الدواء بنسبة 15%.
لقد سُرّت الطبقات الكادحة المستهلِكة، بهذا المرسوم الأخير، ولكن، سرعان ما تبيّن لها أنّه لم يطبّق، وظلّ محصورًا في النطاق النظريّ أكثر منه في نطاق التنفيذ؛ فتحوّل سرورها حينئذ إلى كدر، لا بل إلى اشمئزاز، ليس لأنّها لم تنل خفضًا في مشترى الدواء فحسب بل لأنّ أصنافًا كثيرة منه نقصت من سوق البيع وتوارت.
وعلى الأثر اشرأبّ المرسوم 1943 بعنقه وأطلّ على الناس في جوّ مشحون بالتأفّف والتبرّم من تصاعد الغلاء، وفيه كلمات "زيادة"، فامتعضوا وأجبروه على الانطواء والتقوقع والتواري، لتألّب التجار ضدّه من جانب، ولوقوف الشعب المشمئز الممتعض من عدم تطبيق مرسوم تخفيض المنجزات الطبّيّة من جانبٍ آخر.
إنّ المرسوم الذي تبنّاه الوزير "إميل بيطار" خلق زوبعة في فنجان لأنّ أهميّته بالنسبة للمستهلك اللبنانيّ ضئيلة، لا تكاد تذكر ولا يحسب لها حساب ذو وزن في ميزانيّته بالرغم من أنّه صفّق لصدوره، لأنّه بالنسبة للفقير تُعدُّ حصاة تسند خابيته شبه الخاوية.
وأمّا بالنسبة للتجّار، تجار الدواء، من مستوردين وأصحاب مستودعات وصيادلة، فما قيمة الخمسة عشر بالمئة تخفيضًا، حتّى يثيروا مثل هذه الضجّة؟ إنّهم لو رضوا بتحمّل التخفيض مجتمعين، لنالوا رضى الشعب، ورضى الشعب أسمى بكثير من قيمة هذا التخفيض، وأقرب إلى راحة البال عند محاسبة النفس!
لقد أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، لهذا الخفض الهزيل، وشنّوا الحملات الدعائيّة ضدّ وزير الصحّة واستكتبوا بعض حملة الأقلام لتخطئة عمله، واستعانوا بمصادر بعض القوى السياسيّة لتعمل على تفشيله، حتّى أحوجوه إلى الاستقالة، ولا يزالون منكبّين على تقريعه وإلصاق التهم فيه، فنسبوا إليه الارتجال والجهل وعدم الرويَّة، وهو الرجل الرصين الخلوق المتمكّن من موضوعه الذي عالجه، والخبير بشؤون المرض والعلاج والدواء!
وإذا كان "إميل بيطار"، العارف الأمور المتعلّقة بالأدوية ومحتاجي الأدوية، جاهلًا في مهنته فمن يكون العالم، أيّها السادة الثائرون على مرسومه؟
أنا لا أدافع عن "إميل بيطار"، ولكن أدافع عمّا أعتقد أنّه صواب. إنّ مرسومه لن يجلب المنّ والسلوى لمشتري الدواء ولن يسمن أو يغني من جوع، لو طبّق؛ غير أنّه في اعتقادي، قائم على منطق سليم، يستند إلى إنسانيّة واضحة، إلى محبّة لمساعدة الفقير، ولو بشيء زهيد، لا يستحقّ الوقوف عنده والتلّهي به وإثارة الزوابع من أجله وفي وجه وزير صريح لا يوارب!
مثل على الظلم في الربح:
اضطّر صديق لي يومًا إلى مشترى دواء فدفع ثمنه بحضوري 12 ليرة لبنانيّة. ولمّا كان يحتاج إلى استعماله لوقت طويل، اشتراه المرّة الثانية من صديق له صاحب مستودع ودفع ثمنه 9 ليرات بحضوري أيضًا، أي ثلاث ليرات أقلّ، وقد تجاوز هذا الصديق النظام الذي يحظّر عليه البيع لغير الصيادلة، حاسبًا أنّ خدمة الأصحاب إنسانيّة تعلو على القانون!
فإذا أنزل الصيدليّ 15 % من سعره، فيبقى له من الربح الصافي 250 غرشًا، فهل يكون هذا التخفيض كارثة على مربحه؟ ومن يكون أحرى بالمراعاة والرأفة في ضمير المسؤول، الصيدليّ الذي خفّض 45 غرشًا من ربحه البالغ ثلاثمئة غرش، أم المستهلك الذي أدخل في جيب الصيدليّ 255 غرشًا ربحًا صافيًا ثمنًا لقمقم دواء صغير، لم يَشْقَ في صنعه ولم يتعب في تركيبه، وأدخل مثل هذا الربح في جيب صاحب المستودع ومثله في جيب المستورد؟ وقد يكون استدان ثمنه إذا كان من طبقة الفقراء المعدمين؟
من هذا المثل الواقعيّ، ومن الغضبة التي انتابت أكثريّة الفئات المتعاطية استيراد وبيع الدواء، وبعد الخطاب الذي سمعته من الوزير المستقيل "إميل بيطار" في نادي رابطة العمل الاجتماعيّ في الثاني عشر من شباط 1972، أدركت حقيقة مؤلمة هي هزال المواطنيّة الصحيحة عند فئات من اللبنانيين، هذه المواطنيّة الصحيحة التي ترتكز على الإيثار والمحبّة! فأين تكون هذه المواطنيّة استنادًا إلى ما ذكرت؟ وتأكّد لي أنّ المحبّة تنقصنا! هذه المحبّة المعدودة أسمى ما يتحلّى به المرء ويتميّز به المواطن الصالح إذا جرّد اللبنانيّ من هذه المنقبة، خفّض قيمة لبنان وارتكب بحقّه إثمًا لا يغفره له الشعب!
المحبّة أثمن من المال وأرفع من الجاه وأسمى من العلم! المحبّة القائمة أساسًا على التضحية في سبيل الغير، تفرض على مستورد الدواء وبائعه فرضًا أدبيًّا أن يتغاضى عن خسارة ضئيلة من جرّاء هذا التنزيل الضئيل، الذي قد يساعد المسؤول الساعي إلى التخفيض عن عبء المواطن المعسّر، لا أن يثور عليه ويضع في دربه العراقيل التي تعيق التقدّم وتعمّق الهوّة القائمة بين الحكومة والشعب، وتوسّع نطاق عدم الثقة بينهما ممّا يؤذي المصلحة العامّة.
إنّ محبّة المستهلك اللبنانيّ يا أخي، تفرض عليك الّا تكون أنانيًّا جامحًا في أنانيّتك. فالأنانيّة الجامحة هذه مرض خطر على جسم المجتمع؛ إنّها واسطة لتفكيكه، إذ إنّها سبب لخلق الكراهية بين المواطنين، والكراهية تؤدّي إلى العداوة والتطاحن والثورة والخراب!
إنّك يا أخي المستورد والبائع تريد الربح، وهذا حقّ من حقوقك وحقّ كلّ إنسان، تريد الغنى وهذا حقّك أيضًا، ولكن ليس الغنى بالمال وحده وقد قال أبو فراس الحمدانيّ الشاعر:
إنّ الغنيّ هو الغنيّ بنفـــــــــسه ولو أنّه عاري المناكب حافي
ما كلّ ما فوق البسيطة كافيًا وإذا قنعت فكلّ شيء كافِ
إنّ قبولك التخفيض في سعر الدواء دلالة على محبّتك لمواطنيك، وهو يقرّبهم منك ويدني قلوبهم من قلبك ويوطّد المواطنيّة الخيّرة بينك وبينهم، بينما رفضك إيّاه علامة غير صحيّة، لا تدلّ فقط على حبّك للمال الذي هو أمر مشروع، بل إنّها برهان ساطع على الجشع المؤسّس على أنانيّة مكروهة!
إنّني أربأ بك أن تكون جشعًا، كما أربأ بكلّ لبنانيّ أن يكون كذلك!
يجب أن نثور على هذا المرض العضال لنستأصل شامته من بين ظهرانينا، أن نثور ثورة ثقافيّة عليه، متعاونين معًا، مستهلكين وبائعين، تجنّبًا لثورة من نوع آخر لا تؤدّي إلّا إلى دمار الجميع، أعاذنا الله من شرّ الجشع ومن شرّ الطامعين وهدانا صراط المحبّة آمين.
يوسف س. نويهض